فالشر هنا يرتكبه الإنسان وليس سواه، ويظل فعلا محصورا داخل المجتمع الإنساني، وليست له أي امتدادات ميتافيزيقية كتلك التي تحيلنا إليها التفسيرات الدينية، بل هو نتاج اعتلال وتغييب للوعي الإنساني وحرية الاختيار يجعل البشر ينحرفون عن جوهرهم الإنساني، لمغريات وأطماع شخصية وخضوعا لأنظمة وقوى مستبدة.
ولا يخفى حجم التحدي لمثل هذه النظرة لنظام ثيوقراطي يستند على أسس دينية ويستند إلى ولاية الفقيه (رجل الدين الأعلم) في بنية نظامه السياسي، كالنظام الحاكم في جمهورية إيران الإسلامية، والذي يكثر من استخدام استعارة الشيطان حتى في فقهه السياسي (الشيطان الأكبر).
وليس هذا الموضوع ببعيد عن اهتمامات المخرج رسول اُف في أفلامه السابقة، لكن هذا الفيلم يمثل ذروة نضجه في التعامل مع هذا الموضوع وتجاوزا للكثير من الثغرات والمبالغات التي قدمها في صورة الجلاد أو مرتكب الشر في أفلامه السابقة (وهذا ما سنوضحه لاحقا في هذا المقال).
دب البرلينالة الذهبي
هذه المعالجة قادت لجنة تحكيم مهرجان برلين السينمائي الدولي (البرلينالة) في دورته السبعين إلى تتويج فيلم “لا وجود للشيطان” بجائزة الدب الذهبي وهي أعلى جائزة يمنحها المهرجان.
وقد بررت لجنة التحكيم قرارها بمنح الفيلم هذه الجائزة على لسان رئيسها الممثل جيرمي أيرونز، الذي وصف الفيلم بأنه أظهر كيف تنسج “شبكة نظام مستبد خيوطها بين الناس العاديين، وتجرهم نحو اللاإنسانية”.
وقد تكرر مشهد مقعد المخرج الفارغ الذي رأيناه قبل خمس سنوات لحظة فوز المخرج الإيراني جعفر بناهي بجائزة الدب الذهبي عن فيلمه “تاكسي” عام 2015، بعد تعذر حضوره إلى المهرجان إثر منعه من السفر في أعقاب اعتقاله مع مجموعة من الأشخاص إثر لقاء في منزله، بينهم رسول اُف نفسه. فبدا مقعد رسول اُف هذه المرة خاليا أيضا، بعد منعه من السفر منذ أن صادرت السلطات الإيرانية جواز سفره بعد عودته من مهرجان كان في عام 2013، الذي توج فيلمه “رجل نزيه” بجائزة تظاهرة “نظرة ما” فيه.
وقد نقلت وكالات الأنباء عن محامي رسول اُف قوله إن السلطات الإيرانية قد فعّلت حكم السجن الصادر بحقه لمدة عام، بعد أن كان موقف التنفيذ، وإنه تسلم رسالة نصية من السلطة القضائية بذلك، لكنه لن يسلم نفسه وسيستأنف ضد القرار.
وترجع مشكلة رسول اُف مع القضاء الإيراني إلى عام 2011، عندما حوكم هو والمخرج بناهي بتهمة التصوير من دون الحصول على إذن رسمي، وصدر بحقهما حكم بالسجن لست سنوات، وقد خفف الحكم على رسول اُف إلى سنة واحدة لاحقا.
ويأتي منح هذه الجائزة لفيلم رسول اُف وسط مناخ سياسي محموم إثر تصاعد التوترات والمواجهات بين إيران والولايات المتحدة، وتشديدها للعقوبات الاقتصادية عليها.
“تفاهة الشر”
على مدى نحو ساعتين ونصف، يقدم رسول اُف معالجته في أربع فصول أو حكايات منفصلة، ويمكن اعتبارها أربعة أفلام قصيرة مختلفة في تفاصيلها السردية وشخصياتها لكنها تنتظم في النهاية في معالجة موضوع واحد، هو كيف يتولد الشر في بيئة الاستبداد، عندما ينسج خيوطه في أفعال الحياة اليومية، وما مدى مسؤولية الناس عن كشفه ومواجهته.